[size=12] [right][size=9]سنبدأ حديثنا عن المشهد الفلسفي الفرنسي المعاصر من خلال إثارة المفارقة التالية: إنّ "المسألة التي تبدو أكثر كونية وشمولية، هي في الوقت ذاته الأكثر خصوصية وفرادة". إنّ هذا يشبه ما يطلق عليه هيجل "الكلّي الملموس". و يبدو أن تاريخ الفلسفة يجلي هذه المفارقة على نحو بيّن: فكلّ فلسفة هي من جهة كلّية وشمولية حيث تتوجّه إلى الجميع بدون استثناء؛ ولكن ومن جهة أخرى، في كلّ فلسفة يوجد الكثير من الخصوصيات الثقافية والقومية والتاريخية. هناك إذن لحظات للفلسفة في الزمان والمكان. فالفلسفة إذن هي من جهة نزوع شمولي للعقل، وهي في الوقت ذاته لا تتجلّى إلاّ عبر لحظات هي في مجملها خاصة وفريدة وأصيلة. يقدّم لنا باديو في محاضرة قيّمة[i]، مثالين أو لحظتين فلسفيتين بارزتين: لحظة الفلسفة الإغريقية ولحظة الفلسفة المثالية الألمانية. فالأولى التي تقع ما بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد والتي تمتدّ من بارمنيد إلى أرسطو، ثمثّل ما يمكن اعتباره لحظة التأسيس والإبداع الفلسفيين وهي لحظة استثناء قصيرة العمر في الزمان نسبيا. والمثال الثاني هو الذي تجسّده لحظة الفلسفة المثالية في ألمانيا ما بين القرنين – نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر- وهي التي تمتدّ من كانط إلى هيجل، ومن فيخته إلى شيلنغ. فهذه أيضا تمثّل لحظة فلسفية استثنائية كثيفة وخلاّقة، وتمثّل أيضا فترة قصيرة جدّا من الناحية الزمنية. على غرار هاتين اللحظتين يمكن أن نتحدّث عن لحظة فلسفية فرنسية تتموضع ما بين النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. يمكن مقارنتها مع اللحظات الفلسفية الآنفة الذكر.
لنأخد كمثال على هذه اللحظة، مؤلف "الوجود والعدم"- وهو المؤلف الأساسي لسارتر الذي ظهر سنة 1943، وآخر كتاب لدولوز "ما هي الفلسفة؟" الذي ظهر في بداية التسعينات من القرن العشرين. ما بين سنة 1943 ونهاية القرن العشرين، تبلورت لحظة الفلسفة الفرنسية. ومابين سارتر ودولوز، يمكن أن نتحدّث عن باشلار، وميرلوبونتي، ولفي ستراوس، وألتوسير ، وفوكو، ودريدا، ولاكان.. مجموع هذه الكتابات التي تتموضع ما بين المؤلف الأساسي لسارتر وآخر مؤلفات دولوز، هي التي تشكّل ما اعتبرناه يمثّل لحظة الفلسفة الفرنسية المعاصرة. إنها تمثل بحقّ لحظة فلسفية جديدة، لا تخلو من أصالة وفرادة وخصوصية وإبداع، وفي الوقت ذاته تتسم بطابع الكونية والشمولية. والمشكل الذي يواجهنا هنا يتمثّل في كيفية التعرّف على هذه الكلّية، وتحديد سمات وتقاطعات واختلافات هذا المجموع المتعدّد والمتنوّع من النماذج والمؤلفات والاهتمامات؟
لنبدأ - مقتفين في ذلك أهمّ خطوات محاضرة باديو المشار إليها آنفا- بطرح الأسئلة التالية: ما الذي طرأ على مستوى المشهد الفلسفي ما بين سنة 1940 ونهاية القرن 20؟ ما الذي تعنيه نعوت مثل الوجودية، البنيوية، التفكيكية؟ هل يمكن أن نتحدّث عن وحدة فكرية وتاريخية لهذه اللحظة؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فما طبيعة تلك الوحدة ؟
يجيب باديو عن هذه الأسئلة انطلاقا من أربع كيفيات مختلفة يصيغها في أربعة أسئلة: السؤال الأول يتعلق بالأصل، والثاني يتعلق بالإجراءات، والثالث يتعلق بعلاقة الفلسفة بالأدب، والرابع يتعلق بعلاقة الفلسفة بالتحليل النفسي. 3-1- مسألة الأصل:
للتفكير في أصل هذه اللحظة الفلسفية الفرنسية المعاصرة يجب الصعود إلى بداية القرن20 حيث حدث انقسام أساسي داخل الفلسفة الفرنسية، كان نتيجته تشكّل تياران مختلفان بشكل جذري. ومن بين معالم هذا الانقسام نجد المحاضرتين المشهورتين اللتان ألقاهما برغسون سنة 1911 في أكسفورد، وتم نشرهما في "مقتطفات برغسون" تحت عنوان "الفكر والحركة". وفي نفس التاريخ وبالضبط سنة 1912 ظهر كتاب برنشفيك الذي يحمل عنوان "مراحل الفلسفة الرياضية". هذان التدخلان قد تمّا قبل حرب 1914، أي بداية الحرب العالمية الأولى. وهما يشيران إلى وجود توجّهين مختلفين بشكل حاد. ففي حالة برغسون نكون أمام ما يمكن أن نطلق عليه "الفلسفة الجوانية"، أو "الباطنية الحيوية" Philosophie de l’intériorité vitale. يتعلّق الأمر بأطروحة التماهي والتطابق بين الوجود والتغير، بين فلسفة الحياة والصيرورة. إنّ هذا التوجّه سيحافظ على استمراريته طوال القرن 20، وسنجد له حضورا حتى في فكر دولوز. في كتاب برنشفيك نكتشف "فلسفة للمفهوم" ذات مرتكز رياضي. يتعلق الأمر هنا بإمكانية بناء صوري للفلسفة وبفلسفة للرّمزي. وهذا التوجّه بدوره استمرّ طوال القرن وخاصة مع كل من لفي ستراوس، وألتوسير، ولاكان.
كخلاصة أولى إذن، عرفت بداية القرن 20 أوّل انقسام في الفلسفة الفرنسية المعاصرة: فمن جهة هناك "فلسفة الحياة"، ومن جهة أخرى هناك "فلسفة المفهوم". وهذا المشكل، أعني مشكل الحياة والمفهوم سيصبح هو المسألة المركزية للفلسفة الفرنسية حتى اليوم. فبموازاة النقاش الدائر حول الحياة والمفهوم، هناك نقاش حول "الذات". ويمكن اعتباره بمثابة النقاش المنظّم للمرحلة بكاملها. لماذا؟ لأنّ الذات الإنسانية هي جسد حي ومبدع للمفاهيم في الوقت نفسه. فالذات إذن هي القاسم المشترك بين التوجّهين، حيث يتمّ مساءلتها من حيث حياتها: حياتها الذاتية، حياتها البهيمية، حياتها العضوية هذا من جهة. ومن جهة أخرى يتمّ مساءلتها من حيث فكرها ومفاهيمها وتصوّراتها، ومن حيث قدرتها الإبداعية، وقدرتها التجريدية. فالعلاقة بين الجسد والفكرة، بين الحياة والمفهوم، هي النّاظم لصيرورة الفلسفة الفرنسية. وهذا الصراع الفكري حاضر مند بداية القرن مع برغسون وبرنشفيك. وإذا جاز لنا أن نستعير من كانط تعريفه للفلسفة كحقل لنزاع تدور رحاه بين الفلاسفة، فيمكن القول بأنّ المعركة المركزية للفلسفة في النصف الثاني من القرن 20 ستكون معركة تدور حول "مسألة الذات". ومن أهمّ معالمها يمكن أن نذكر ما يلي: - فألتوسير يعرّف التاريخ كصيرورة بدون ذات، كما يعتبر "الذات" مقولة إيديولوجية.
- كما أنّ دريدا في تأويله لهايدغر، يعتبر "الذات" المقولة الأساسية للميتافيزيقا.
- أما لاكان فهو– لكي يترك جانبا مركزية الذات لدى سارتر وميرلوبونتي- يبتكر مفهوما أصيلا عن الذات.
هكذا فالكيفية الأولى لتحديد "اللحظة" الفلسفية الفرنسية هي تحديدها باعتبارها معركة تدور رحاها حول مفهوم "الذات"، لأنّ السؤال الأساسي فيها هو العلاقة بين المفهوم والحياة، إنّه في آخر المطاف سؤال حول مصير الذات.
ونستشف من هذا الاستنتاج بأنّ الإشكال المعاصر يحمل أثر الديكارتية، وبأنّ الفلسفة الفرنسية للنصف الثاني من القرن 20 هي عبارة عن نقاش ممتدّ وموسّع حول ديكارت. بما أنّ هذا الأخير هو المؤسّس للذاتية في الفلسفة والمبتكر لمقولة الذات. بل أكثر من ذلك يمكن إرجاع انقسام الفلسفة الفرنسية والصعود بجذوره إلى الطابع المتناقض للإرث الديكارتي نفسه: فديكارت هو في الوقت نفسه صاحب نظرية الجسد الفيزيائي، الجسد/الحيوان/الآلة، ومنظّر للرّوح والتأمّل الخالص. إنّه يهتم بمعنى من المعاني ب"فيزياء الأشياء"، وب"ميتافيزيقا الذات". وهذا ما يجعلنا نعتبر بأنّ الفلسفة المعاصرة هي بشكل من الأشكال قراءة نقدية مستمرّة للإرث الديكارتي. بل إنّ لاكان لا يني يعلن بأنّه لا يفعل سوى العودة إلى ديكارت. ويوجد لدى سارتر مقال هام حول مفهوم الحرية لدى ديكارت. كما نجد لدى دولوز- أسوة بنيتشه- نوعا من "التوجّه" المناهض لديكارت. وهذا يدلّ على أنّ هذه المعركة الفلسفية هي في آخر المطاف معركة حول دلالة الديكارتية. هكذا فالأصول تقدّم لنا تعريفا أوّليا لهذه اللحظة الفلسفية بما هي "معركة مفهومية" متمحورة حول سؤال الذات.
3-2- مسألة الإجراءات:
في المرحلة الثانية سنحاول فيها تحديد إجراءات فكرية مشتركة لدى الفلاسفة المعاصرين. فهناك أربع إجراءات تحدّد الكيفية التي تمارس بها الفلسفة وهي إجراءات منهجية: الإجراء الأوّل هو إجراء ألماني، أو بشكل أدقّ هو إجراء فرنسي حول الفلاسفة الألمان. فكلّ الفلسفة الفرنسية للنصف الثاني من القرن 20 هي مناقشة للإرث الألماني. وهناك لحظات جدّ هامة في هذا النقاش: نذكر، على سبيل المثال، مناظرة كوجيف حول هيجل في الثلاثينات والتي تتبّعها لاكان، وأثّرت بقوة على لفي-ستراوس. بعد ذلك هناك اكتشاف للفينومنولوجيا من قبل فلاسفة الثلاثينيات والأربعينيات، وذلك عبر قراءة هوسرل وهايدغر. فسارتر على سبيل المثال قد غيّر منظوره أثناء قراءته لنصوص كل من هوسرل وهايدغر- خلال إقامته في برلين. أمّا دريدا فهو قبل كلّ شيء قارئ ومؤوّل أصيل للفكر الألماني. ثمّ هناك نيتشه، الفيلسوف الأساسي بالنسبة لفوكو ودولوز.
يمكن القول إذن بأنّ الفرنسيين أخذوا يبحثون عند الألمان: عند كانط، هيجل، نيتشه، هوسرل، وهايدغر، عن شيء ما كانت تفتقر إليه فلسفتهم. ما هو هذا الشيء؟ إنّه بعبارة مركّزة: البحث عن علاقة جديدة بين المفهوم والوجود. ولقد اتخذ هذا البحث عدة نعوت وأوصاف: كالتفكيكية، الوجودية، الجنيالوجيا، الهيرمينوطيقا.. ولكن عبر جميع هذه الأسماء هناك رغبة وبحث مشتركين يتمثّلان في السعي إلى تحويل وتغيير وزحزحة العلاقة بين المفهوم والوجود، بين المعرفة والحياة. فكما أنّ سؤال الفلسفة الفرنسية منذ بداية القرن قد كان هو سؤال المفهوم والحياة، فإنّ هذا التحول في الفكر، في علاقة الفكر بتربته الحية قد شغل اهتمام الفلسفة الفرنسية. إنّه الإجراء الألماني: أي العثور في الفلسفة الألمانية عن أدوات وآليات جديدة لمقاربة ومعالجة العلاقة بين المفهوم والوجود. إذن فالإجراء الأوّل هو إجراء التملّك الفرنسي للفلسفة الألمانية. وبموجب هذا التملّك صارت الفلسفة الألمانية- في ترجمتها الفرنسية، وفي حقل معركة الفلسفة الفرنسية- شيئا جديدا. الإجراء الثاني الذي لا يقلّ أهمية عن الأوّل يتعلّق بالعلم. لقد أراد الفلاسفة الفرنسيون في النصف الثاني من القرن 20 أن ينتزعوا العلم من حقل فلسفة المعرفة، بإظهار بأنّ العلم نشاط مبدع ومنتج وليس مجرّد تأمّل ومعرفة. لقد أرادوا العثور في العلم عن نماذج للابتكار والتحويل، فعملوا على نقله من مجال انكشاف الظواهر وتنظيمها إلى مجال النشاط الإبداعي على غرار العمل الفني والفلسفي. هذه السيرورة ستجد صداها وتحقّقها في آخر كتاب لدولوز حيث سيقارن، بشكل لا يخلو من دقة وحميمية، الإبداع العلمي بالإبداع الفني ثم الفلسفي.
الإجراء الثالث هو إجراء سياسي، ففلاسفة هذه الفترة أرادوا إدراج الفلسفة كنشاط ملتزم في المجال السياسي. هذا ما تجلّى بشكل واضح لدى كلّ من سارتر وميرلوبونتي، وفوكو وألتوسير ودولوز. فكلّ هؤلاء كانوا يجمعون بين الإبداع الفلسفي والنشاط السياسي. بل عبر هذا النشاط كانوا يسعون للبحث عن علاقة جديدة ما بين المفهوم والفعل، ما بين النظرية والممارسة. فكما أنّه بالنسبة للألمان، كانوا يبحثون عن علاقة جديدة ما بين المفهوم والوجود، فإنّ الفلاسفة الفرنسيين في هذه الحقبة، كانوا يبحثون بدورهم عن الكيفية التي يمكن بها ترجمة المفهوم إلى فعل. "فالرغبة الأساسية للزجّ بالفلسفة في أوضاع سياسية تقتضي تغيير العلاقة ما بين المفهوم والفعل". وأخيرا فإنّ الإجراء الرابع هو الإجراء التحديثي. يتعلّق الأمر بتحديث الفلسفة قبل تحديث الفعل أو الحكم السياسي. ويعني هذا الإنصات لنبضات العصر، ومعاينة عن قرب للتحوّلات الاجتماعية والثقافية والفنية، والخلخلة التي تتعرّض لها الأعراف والعادات والتقاليد. لقد كان هناك اهتمام فلسفي قوي بالصباغة اللاتجسيديةLa peinture non- figurative وبالموسيقى الجديدة، والمسرح، والرواية البوليسية، والجاز، والسينما. لقد كانت هناك إرادة جامحة لتقريب الفلسفة من كلّ ما هو حي وكثيف في العالم الحديث. كما كان هناك اهتمام بالجنس، وبأساليب الحياة الجديدة، وعبر كلّ هذا تبحث الفلسفة عن علاقة جديدة بين المفهوم وحركة الأشكال: أشكال الحياة والفن والثقافة والتعبير. الإجراء التحديثي إذن تمثّل أساسا في البحث عن كيفية جديدة للفلسفة لجعلها تقترب من إبداع الأشكال. هذه اللحظة الفلسفية كانت إذن عبارة عن عملية تملّك جديد للإبداع الألماني، ورؤية مبدعة للعلم، وراديكالية سياسية، وبحث عن أشكال جديدة للفن والحياة. وعبر كلّ هذه التمظهرات حاولت هذه الفلسفة أن تغيّر "سياسة المفهوم"، وخلخلة العلاقة التي يقيمها المفهوم مع "الخارج"، ومع آخره. وهو الذي يعني محاولة إقامة علاقة جديدة مع الوجود والفكر والعمل وحركة الأشكال. بل يمكن القول بأنّ هذه الجدّة في العلاقة ما بين المفهوم الفلسفي وما يوجد خارج هذا المفهوم، هي التي كانت وراء الجدّة العامة للفلسفة الفرنسية خلال القرن 20. طبعا هذا المسعى قد دفع بالفلسفة إلى التساؤل حول شكلها هي أيضا. وبطبيعة الحال فلا يمكن إحداث أي انزياح في المفهوم، دون ابتكار أشكال فلسفية جديدة، أي دون ابتكار أساليب جديدة في الفلسفة[ii]. فكان إذن من الضروري العمل على تحوير لغة الفلسفة وليس الاكتفاء فقط بخلق مفاهيم جديدة. لقد اقتضى ذلك من الفلسفة أن تقيم علاقة جديدة خاصة مع الأدب، والتي هي أحد السمات البارزة للفلسفة الفرنسية في القرن العشرين. بل يمكن النظر إلى هذه القضية- أقصد مسألة الأدب- باعتبارها ليست استثناءا في تاريخ الفكر الفرنسي، بل تحيل إلى تاريخ طويل في فرنسا، حيث جلّ الذين كانوا يعتبرون فلاسفة في القرن 18، كانوا في الوقت ذاته يعدّون من كبار الكتاب الذين ينتمون إلى ما يسمّى بالأدب الكلاسيكي. يوجد في فرنسا الكثير من المؤِلفين لا ندري إن كانوا ينتمون إلى الأدب أم إلى الفلسفة، مثل باسكال، فولتير، ديدرو…هناك في هذا التاريخ إذن علاقة، ما بين البرنامج الشعري والأدبي والبرنامج الفلسفي، وهي العلاقة التي جسّدتها السريالية. إذ لعبت هذه الأخيرة دورا هاما في تقوية العلاقة ما بين الأدب والفلسفة، وذلك من خلال سعيها إلى ابتكار أساليب وأشكال جديدة للحياة. غير أنّه ابتداء من الخمسينات والستينات من القرن20، فإنّ الفلسفة هي التي ستنتدب نفسها لابتكار شكلها الأدبي الملائم والخاص بها، وذلك من خلال إيجاد العلاقة التعبيرية المباشرة ما بين العرض الفلسفي أو الأسلوب الفلسفي، والانزياح المفهومي الذي تقترحه. ولقد كان نتيجة ذلك كلّه تحوّلا طريفا في الكتابة الفلسفية، وهذا ما تجليه كتابة كل من بلونشو، وفوكو، ودولوز، ولاكان، ودريدا، وهي كما نعلم كتابة شكّلت قطيعة حقيقية مع تقليد الكتابة السابقة. كلّ هؤلاء الفلاسفة حاولوا أن يبلوروا أسلوبا فلسفيا خاصا بهم، وأن يبتكروا كتابة جديدة[iii]، وبكلمة واحدة لقد أرادوا أن يكونوا كتّابا. إننا نعثر لدى دولوز كما لدى فوكو عن شيء جديد تماما في حركة الجملة لديهما. حيث أصالة العلاقة ما بين الفكر وحركة الجملة، وحيث هناك إيقاع توكيدي جديد غير مسبوق، ومعنى للصياغة لا يخلو هو أيضا من الابتكار. لدى دريدا نعثر على علاقة معقّدة وشغوفة من اللغة إلى اللغة واشتغال للغة على ذاتها حيث الفكر يمرّ عبر عمل اللغة على نفسها. لدى لاكان نعثر على تركيب معقّد يكاد لا يشبه غير تركيب مالارمي ممّا يجعله تركيبا شعريا.
هناك إذن تحوّل جذري في أسلوب الفلسفة ومحاولات لخلخلة الحدود ما بين الفلسفة والأدب. ويجب أن نتذكّر أيضا بأنّ كلا من سارتر وباديو من بعد، يميلان إلى الدراما والرواية. إنّ خصوصية هذه الفلسفة إنما تتمثّل في قدرتها على اللعب على عدّة سجلات للغة، وزحزحة الحدود ما بين الفلسفة والأدب، وما بين الفلسفة والمسرح[iv]. بل يمكن القول بأنّ أحد أهداف هذه الفلسفة الفرنسية إنما يتمثّل في العمل على خلق فضاء جديد للكتابة، فضاء لكتابة جديدة حيث الأدب والفلسفة يصبحان غير متمايزين، فضاء لن يكون هو فضاء الفلسفة الخالصة، وليس فضاء للأدب الخالص، ولكنه سيكون فضاء كتابة لا يمكن التمييز فيه بين الأدب والفلسفة، بمعنى لا يمكن التمييز فيه بين المفهوم والحياة؛ ذلك لأن هذا الابتكار في الأخير، يتمثّل في إعطاء للمفهوم حياة جديدة، إنها حياته الأدبية. إذ عبر هذه الكتابة تتم بلورة الذات الجديدة، وبلورة معرفة جديدة حول الذات. فالذات منذ الآن لا يمكن أن تكون دعوة للعودة إلى الذات الواعية العاقلة ذات الكوجيطو الديكارتي[v]. إنها لا يمكن أن تكون هي الذات المتأمّلة، بل هي أشدّ انغماسا في الحياة ومحايثة للجسد وأوسع من الوعي والشعور[vi]. 3-4- علاقة الفلسفة بالتحليل النفسي: لهذا يشكّل التحليل النفسي طرفا أساسيا في الحوار الذي تجريه الفلسفة المعاصرة، لأنّ الابتكار الأساسي لفرويد في عمقه إنما يتمثّل في خلخلة المفهوم الأنواري عن الذات، وبلورت تصوّر جديد عنه. فما أدخله فرويد عبر مفهوم اللاشعور، هو اعتبار أنّ رقعة الذات هي أوسع وأشمل من رقعة الوعي. إذ الذات تشمل الوعي ولكنها غير قابلة للاختزال فيه. وهذه هي الدلالة الأساسية للاشعور عند فرويد. يترتّب عما سبق أنّ الفلسفة الفرنسية المعاصرة قد دخلت في حوار واسع وممتدّ مع التحليل النفسي، وهو الحوار الذي يطبع اليوم المشهد الفكري المعاصر. ولقد تجلّى رهان ذلك الحوار في كونه قد كان وراء انقسام الفلسفة الفرنسية المعاصرة منذ مطلع القرن العشرين إلى تيارين: فهناك من جهة "النزعة الحيوية الوجودية"Le vitalisme existentiel والتي تجد أصلها لدى برغسون، وتمرّ عبر سارتر وفوكو ودولوز، وهناك من جهة أخرى ما يمكن نعته "بالشكلانية المفهومية" والتي نعثر عليها لدى برنشفيك وتمرّ عبر ألتوسير ولاكان. إنّ المسألة التي تشكّل تقاطعا بين الاتجاهين – أقصد النزعة الحيوية والنزعة الشكلانية – هي مسالة الذات, ذلك لأنّ الذات هي في آخر المطاف، الكائن المبدع للمفهوم. وبمعنى ما فإنّ اللاشعور الفرويدي هو الوجه الآخر للذات، فهو أيضا شيء موجود حامل أو مصدرللمفهوم. فكيف يمكن للموجود أن يحمل مفهوما؟ كيف يمكن لشيء فكري أو مفهومي أن يخلق انطلاقا من الجسد؟ إنّه السؤال المركزي. لهذا كانت العلاقة التي ربطت الفلسفة بالتحليل النفسي علاقة كثيفة لا تخلو من مفارقة وتناقض. إذ يمكن توصيفها بأنها علاقة انبهار وعشق وفي الوقت نفسه علاقة صراع وعدوانية. إنّها علاقة تنافس وتواطؤ في الوقت ذاته. هي علاقة تواطؤ لأنّ الأمر يتعلّق بعلاقة بين طرفين يعملان نفس الشيء، وهي علاقة تنافس لأنهما يعملانه بشكل مختلف. لهذا شكّلت تلك العلاقة مشهدا عنيفا ومعقّدا. هناك ثلاثة نصوص تساعدنا على تكوين فكرة عن تلك العلاقة:
- النص الأوّل هو بداية كتاب باشلار المنشور بتاريخ 1938، والذي يحمل عنوان "التحليل النفسي للنار"، إذ يجلي لنا بوضوح تلك العلاقة. فباشلار يقترح هنا تحليلا نفسيا جديدا يستند إلى حقل الشعر ومجال الحلم، هو أشبه بالتحليل النفسي للأسطقسات الأربعة: النار، الماء، الهواء، التراب. يتعلّق الأمر بتحليل نفسي ابتدائي وأوّلي. وفي العمق، يمكن القول بأنّ باشلار يحاول أن يضع محلّ "الإكراه الجنسي" الذي هو خاص بفرويد، الاستحلام la rêverie، وأن يبيّن بأنّ "الحلم" هو شيء أكثرشمولية واتساعا، وأكثر انفتاحا من الإكراه الجنسي.
- النص الثاني هو نهاية كتاب "الوجود والعدم" لسارتر، والذي يقترح فيه هو أيضا بلورة تحليل نفسي جديد، يطلق عليه إسم "التحليل النفسي الوجودي"، حيث تعثر علاقة تواطؤ/تنافس - الآنفة الذكر- تجسيدها البيّن. إنّه يقيم تعارضا بين تحليله الوجودي والتحليل الفرويدي الذي يلقّبه "بالتحليل النفسي الإمبريقي". هكذا فإذا كان باشلار أراد استبدال الإكراه الجنسي بالحلم، فإنّ سارتر يريد إحلال محلّ "مركّب أوديب" complexe d’oeudip، بما هو يشكّل بنية اللاشعور، ما يسمّيه "بالمشروع" le projet. فما يحدّد الذات لدى سارتر ليس هو بنية عصابية أو اختلال بنيوي، وإنما هو مشروع أساسي، إنّه "مشروع وجود".
- النص الثالث هو الفصل الرابع لكتاب دولوز وغاتاري "ضدّ اوديب"، حيث يتم فيه استبدال التحليل النفسي، بمنهج آخر يطلق عليه دولوز "التحليل السكيزوفريني"
La schizoanalyse.
إنّ الوجه الطريف في هذه المسألة يكمن في أنّ ثلاثة من كبار الفلاسفة، يرومون استبدال التحليل النفسي بشيء مثله ولكنّه مختلف عنه: باشلار يريد إحلال الحلم محلّ الجنس، و سارتر يريد إحلال المشروع محلّ العقدة، ودولوز يريد إحلال البناء محلّ التعبير لأنّ التحليل النفسي، في نظره، لم يعمل سوى التعبير عن قوى اللاشعور بينما المطلوب هو بناؤه.
هكذا وعلى مستوى الأهداف يبدو أنّنا أمام مشروع فلسفي جديد، وأعتقد بأنّ هذه اللحظة الفلسفية المعاصرة تتحدّد بما هي عبارة عن لحظة فلسفية حاملة "لمشروع فكري". ممّا لا شكّ فيه أنّ الفلاسفة هنا مختلفون، وأنّ البرنامج بحكم ذلك سيتمّ تناوله بكيفية مختلفة. لكنّ مع ذلك يمكن من الناحية التاريخية تكوين رؤية أوّلية لما يمكن أن يشكّل قاسما مشتركا بينهم. من الأكيد أنّ هذا المشترك لا يتموضع على مستوى المؤلفات، كما لا يتحدّد على مستوى الأنساق، ولا حتى على صعيد المفاهيم؛ وإنّما يتحدّد، كما قلنا سابقا، على مستوى المشروع. فكيف إذن تتحدّد ماهية هذا المشروع خلال النصف الثاني من القرن العشرين؟ - المسألة الأولى هي عدم وجود تعارض بين المفهوم والوجود، ووضع حدّ للفصل الميتافيزيقي التقليدي يبنهما، وهو الفصل الذي يربطه نيتشه باللحظة السقراطية، ويعتبره بداية الانحطاط في الفلسفة[vii]. يجب إذن، وعلى أنقاض الميتافيزيقا، تبيان بأنّ المفهوم هو حيّ وأنّه بمثابة ابتكار، وأنّه سيرورة وحدث، وبحكم ذلك فهو غير منفصل عن الوجود. - المسألة الثانية تتمثّل في العمل على تغيير "سياسة الفلسفة" وجعل الفلسفة تنكتب داخل الحداثة. وهو ما يعني أيضا إخراج الفلسفة من أسوار الجامعة والمجال الأكاديمي، وجعلها تتداول في الحياة ومن أجلها. فالفلسفة يجب أن تهتم بالحداثة الفنية والفكرية والسياسية، وألاّ تبقى منفصلة ومنعزلة عنها. - المسألة الثالثة في برنامج "لحظة" الفلسفة الفرنسية المعاصرة، تتمثّل في التخلّي أيضا عن التعارض، ما بين فلسفة المعرفة وفلسفة الممارسة. أي التخلّي عن التعارض الذي أقامه كانط بين "العقل النظري" و "العقل العملي"، وإظهار بأنّ المعرفة ذاتها هي ممارسة. - المسألة الرابعة من البرنامج المذكور، يتعلّق بتموقع الفلسفة داخل المشهد الفلسفي دون المرور بالفلسفة السياسية. فالهاجس هنا هو محاولة إقامة ما يمكن تسميته ب"المناضل الفلسفي"، وجعل الفلسفة "ممارسة نضالية" في حضورها وفي نمط وجودها، دون أن تتماهى مع الممارسة السياسية الخالصة. لا يتعلّق الأمر بمجرّد دعوة للتأمّل في السياسة، وإنّما يجب أن تكون تدخّلا سياسيا أصيلا. - المسألة الخامسة، تتعلّق بالعودة إلى "مسألة الذات" أو سؤال الذات، وهي المسألة المهجورة والمسكوت عنها من قبل النموذج التأمّلي. وهذا يقتضي فتح باب النقاش على مصراعيه مع التحليل النفسي حول هذه المسألة.
- المسألة السادسة تتعلّق بابتكار "سياسة جديدة" للأسلوب والكتابة في الفلسفة، من شأنها أن تجعل هذه الأخيرة تنافس الأدب دون أن تتخلّى عن فرادتها وأصالتها وخصوصيتها. يتعلّق الأمر بابتكار، للمرّة الثانية بعد القرن الثامن عشر، لصورة "الكاتب الفيلسوف"، أو "الفيلسوف الشاعر". خلاصة:
تلكم إذن هي ما يميّز "اللحظة الفلسفية الفرنسية المعاصرة"، على مستوى البرنامج، وعلى مستوى الطموح. ربّما يعكس هذا رغبة في إثبات الهوية، أو هوية رغبة. هناك رغبة جامحة لجعل الفلسفة كتابة نشيطة وقوة فاعلة، بما هي"آلة حربية وإبداعية" لذات جديدة. يتعلّق الأمر، بجعل الفيلسوف يصير شيئا آخر غير "الحكيم"، وشيئا آخر غير "منافس القسّ"، على حدّ تعبير نيتشه[viii].إنّ البرنامج يروم أن يجعل الفيلسوف "كاتبا مقاوما"، أو "فنّانا" مبدعا للذات، ومبتكرا لأشكال جديدة للحياة. وهذه كلّها نعوت مختلفة لرغبة واحدة اخترقت الحقبة المعاصرة وتسعى لجعل الفلسفة تشتغل لأوّل مرّة لحسابها الخاص. إنّ الفلسفة الفرنسية للنصف الثاني من القرن العشرين تقترح على الفلسفة تفضيل "تجربة" السير في الدروب والمسالك على "معرفة" الغاية والهدف، حتى ولو كانت تل